من المُلاحَظ أن بعض السنين تكون حافلة بالأحداث السياسية كما تكون أيضًا حافلة بالظواهر الكونية بشتى أنواعها، فهل ثمة علاقة بين هذه وتلك؟
لسنا ندري، ولا نعتقد أن المنجِّم يدري، لأننا نؤمن إيمانًا قويًا بأن الله وحده هو علام الغيوب فحسب، بل لأن الجهل بما تخبئه الأقدار من خير أو شر، عامل أساسي لبناء الجنس البشري وتقدمه ورفاهيته.
ولا يزال كثير من الناس يخلط بين الفلك والتنجيم، فالفلك واحد من فروع العلم كالكيمياء والرياضة والحيوان والنبات، بل هو أقدمها كما تدل على ذلك آثار العصر الحجري، وفروع العلم هذه تختص بدراسة الأشياء التي تقع في نطاق الحس؛ حية كانت أو غير حية.
أما التنجيم الذي يهدف إلى التنبيه عما يخبئه الغيب للأفراد أو الشعوب بوسيلة أو أخرى، ومنها الوسائل التي يزعم المنجمون أنها فلكية، فليس من فروع العلم، ومع ذلك فالفلك مدين بالفضل للمنجمين، الذين عاشوا منذ أقدم العصور، وجمعوا خلالها أرصادًا فلكية عن مواقع السيارات والمذنبات والنجوم، ساعدت العلماء المحدثين على استنباط حركاتها، وكشف بعض الظواهر الفلكية المهمة، والتي لم يكن من الميسور كشفها بدون الاستعانة بأرصاد القدماء، ومن الأمثلة على ذلك طبيعة المذنبات التي كانت ولا تزال تفاجئ الناس بظهورها، ثم تفاجئهم باختفائها.
وهنا يجب أن نقول إن المنجمين في العصور الغابرة لم يكونوا منجمين بالمعنى المعروف في عصرنا هذا، بعد أن حدد العلم أهدافه وطرائفه، بل كانوا علماء وأهل رأي وذوي حظوة كبيرة لدى الملوك، ولم يكن العالِم متخصصًا في فرع من فروع العلم كما هو الحال في عصرنا هذا، بل كان باحثًا في كثير من فروع العلم، كالأدب والفلسفة والطب والصيدلة والرياضة والفلك والكيمياء، وما زلنا للآن نسمي الطبيب /الحكيم/، وهذا يدلنا على ما كان للعلماء من مكانة في نفوس الناس، وعلى ما كانوا يمارسون من فنون المعرفة، وكان الملوك في تلك العصور يرجعون إلى العلماء في بعض شؤون الدولة، ولم تكن هذه الشؤون في هذه العصور مثلما هي عليه الآن تنوعًا وكثرة، بل كانت مقصورة على حفظ الأمن الداخلي، وإقامة العدل بين الناس، وإعداد الجيوش لحماية الدولة من غزو خارجي أو غزو يسجل اسم الحاكم بين الخالدين في سجل التاريخ.
وفي هذه العصور وغيرها، كان الملوك يستنصحون العلماء، ولا نعتقد أن هؤلاء العلماء كانوا يستلهمون النجوم أو الكواكب الرأي الذي ينصحون به، لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم، أن هذه الأجرام لا شأن لها بذلك، ولكن هكذا ظن الناس، فلا ذنب للعلماء، كما أنه لا ذنب للنجوم فيما اعتقده الناس وآمنوا به على مر السنين.
ولما كان الناس في كل زمان ومكان مشوقين إلى معرفة الغيب، لاتخذ بعضهم هذا الأمر صناعة رابحة، هؤلاء هم المنجمون، وقد كانت ولا تزال وستظل صناعتهم رابحة، لأن الناس متشوقون إلى معرفة أقدارهم كما قلنا فحسب، بل لأن بعض ما يتنبأون به قد يتحقق فعلًا. كيف إذن يتحقق بعض ما يقوله المنجمون؟
لقد ذكرنا أن تنبؤاتهم لا ترتكز على أساس من العلم، وبصفة خاصة على قواعد الفلك، الجواب على ذلك نجده في مبادئ علم الإحصاء ونظرية الاحتمالات، ولإيضاح ذلك في عبارة مبسطة نقول: إن لكل مجتمع خصائصه، فالناس يولدون ويمرضون ويموتون ويتزوجون ويشترون ويبيعون ويسافرون ويكدحون ويتدافعون طلبًا للرزق والرفعة، وكل أمر من هذه الأمور محتمل 50% لكل فرد من أفراد المجتمع، فما على المنجم أو حتى عليك إذا قلت لأحد: أمامك سكة سفر، وسيصلك خطاب فيه خبر سار، ستستمع عن صديق مريض، ستدخل عتبة أو ما شابه ذلك مع قليل من الفراسة، فلا يجوز أن تقول لقروي ساذج غير مؤهل مثلًا: سوف تُعين في وظيفة كبيرة، إذ أن هذا الأمر غير محتمل، إن أمرًا أو أكثر من هذه الأمور وأمثالها لا بد أن يتحقق وفقًا لنظرية الاحتمالات في علم الإحصاء، ويشيع أمر المعجزة بين الناس فيذيع صيت المنجم، وتسمو مكانته، ويتهافت الكل على لقائه.
قيل: إن أحد الملوك ضاق ذرعًا بأحد المنجمين، وما بلغه من سلطان على البسطاء، فقرر أن يقتله، ودعاه إلى مقابلته ليتندر به تشفيًا أمام خاصته قبل قتله، وقال له: /إني لأراك وقد زادك الله علمًا، وآتاك من فضله ما لم يؤت به غيرك من العلماء، إنك لتعلم الغيب، فهل تعلم متى تموت؟/ ، وأدرك المنجم بذكائه ما يقصده الملك وما ينتويه، وأسعفه خاطره فقال: لم يفتني هذا الأمر، وقد قدرته تقديرًا، إني يا مولاي سأموت قبلكم بيوم واحد، وخشي الملك أن يكون تقدير المنجم صحيحًا فعدل عن قتله، وأخلى سبيله كي ينعم هو بطول العمر.
وقد تقترن بعض الحوادث المهمة ببعض الظواهر الكونية، فقد سجلت المراصد الفلكية منذ عام 1778 للآن ازديادًا نسبيًا لنشاط الشمس، بمعدل مرة في كل نحو إحدى عشرة سنة في المتوسط، وقد لوحظ أن الثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، وثورة الشعب بباريس، والثورتين الروسيتين، وثورات أخرى وقعت جميعها في أوقات قريبة من فترات هذا النشاط النسبي للشمس، كما كان هناك نشاط نسبي للشمس استمر من سنة 1937 إلى سنة 1940، وكلنا يذكر ما أصاب العالم خلال هذه الفترة من اضطراب، وقد بُذلت محاولات علمية كثيرة لربط هذا التكرار الدوري لنشاط الشمس، بالتغيرات التي تُلاحَظ في أوقات هجرة الطيور، والتغيرات التي تحدث في المحاصيل الزراعية والثورات الاجتماعية، ولكن لا يمكن للآن من الناحية العلمية الجزم بوجود مثل هذا الارتباط.
إن اقتران مثل هذه الحوادث ببعض الظواهر الكونية، لا يمكن البحث عنه في فروع العلم الذي يستند إلى التجربة التي تُجرى في المعمل أو الأرصاد التي يأخذها الفلكيون، ولكن ربما وجدناه في علم الإحصاء بعد أن تتوافر لدينا العناصر العلمية الكافية للكشف عنه.
كل ما نعرفه ، أن الظواهر الكونية بجميع أنواعها تحدث، لأنها من طبيعة هذا الكون، فظاهرتا الكسوف والخسوف تحدثان في كل عام بما لا يقل عن اثنتين للشمس، ولا يزيد على سبع للشمس والقمر، خمس منها للشمس، اثنتان للقمر، أو أربع للشمس وثلاث للقمر، ولكننا لا نرى منها إلا أقل من ذلك، لأننا نحتل مكانًا محدودًا من الفضاء فلا نراها كلها.
وأن متوسط عدد الزلازل الكبير، أو الهزات الأرضية الصغيرة في جميع أنحاء العالم يبلغ نحو ألف في العام الواحد، وليست كل هذه الزلازل مدمرة، إلا لو كانت مراكزها قريبة من مناطق مأهولة بالسكان، عندئذ يبلغ عدد الضحايا عشرات الألوف تبعًا لشدة الزلزال، والنشاط الشمسي له دورة معلومة لدى العلماء استُنبطت من أرصاد فلكية أخذت في أماكن كثيرة على مدى 300 سنة.
هذا عن الظواهر الكونية، ويبدو أن الناس قد أصبحوا أكثر حساسية لكل ما يحدث منها، أما عن الأحداث السياسية وما قد تتمخض عنه فعلمها عند السياسيين، هم يعرفون خباياها وأسرارها، ويحذقون فنونها، وهم بها أصدق أنباءً من الفلكيين ومن المنجمين.
منقول : سماجة، عبد الحميد،, سلامة، عدلي،, & بنا، ايهاب،. (2018). الفلك والحياة. وكالة الصحافة العربية.