يقول الفيكونت دافنل، (وهو مفكر فرنسي): إن الجريدة في نشأتها الأولى عند بدء اختراع الطباعة، كانت تطبع في ورقة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة حاوية كل الأخبار المهمة، ثم تطورت الصحافة حتى أصبحت الجريدة الصلة بين الزعماء والشعب، والوسيلة لنشر الدعايات والأفكار الجديدة، فالصحيفة بمثابة ملك أو ذي نفوذ وسلطان لها جمهورها الذي يتلهف على قراءتها.
واعتبر ان الجريدة القوية ذات المحرر الماهر الذي يعرف كيف يجتذب القراء هي قوة هائلة لا شبيه لها في الدولة الديمقراطية.
وأورد دافنل حواراً ظريفاً بين جريدة وكتاب ليدلل على أهمية الصحيفة وتفوقها على الكتاب.
- قال الكتاب للجريدة: إنك تنعمين بمائة ألف قارىء، ولكنك لا تمكثي إلا ساعة واحدة ثم لا تلبثين أن تتمزقي، ويلقي بك أو يكون منك غلاف واحد للحاجيات، إنك تختفين دون أن تتركي أقراً كالذي أتركه أنا.
- فأجابت الجريدة: أنني أعترف أنك تعمر أكثر مني ولكنك تعيش في عالم من الظلام وفي زوايا النسيان لذا فأنا أفضل حياة يوم أراه مشرفا على مائة عام تقضيها مجهولا مهملا على الرفوف التي يعلوها التراب، لا يبحث عنك أحد ولا يجري في أثرك مخلوق اللهم الفئران!
ويروي الأستاذ ديلاين رئيس تحرير التايمز الأسبق أن سفير إنجلترا في فرنسا انتهز فرصة وجوده في باريس وقدمه إلى ملكة هولندا فالتفتت الملكة إلى أحد رجالها وصرحت له بأنها تعتبر صحيفة التايمز هو رابع سلطة في بريطانيا العظمى.
وكانت التايمز في عهد ديلاين قد نشرت مقالا هز الملك ليوبولد، ملك البلجيك السابق، فأوفد اللورد درهام، وكان من عظماء الإنجليز يومئذ ليتوسط الذي رئيس تحرير التايمز لنشر مقال آخر يلطف به وقع المقال الأول.
وشبيه بهذا ما حدث للصحفي الفرنسي فرفيسان فقد كتب فصولا يؤيد فيها السياسة القائمة في عصره، وأرسل إليه رئيس الجمهورية السكرتير العام لقصر الإليزيه. يقول: «إن جنابه يود أن يراه ليعبر عن ارتياحه»، فأجابه الصحفي العظيم: «إننى أقبل بسرور مقابلة جنابه ويمكنك أن تبلغه أني موجود دائماً بمنزلي في الصباح، وإننى أستقبل الزوار في إدارة الجريدة من الرابعة إلى السادسة»
وفي مجلة (الزهور): «كان حامل القلم كحامل السيف، في يمين كليهما سلاح ماض»
وعليه يجب أن تكون الصحافة – كما قال أحد كبار المفكرين – شجرة الحقيقة يغرد على أفنانها الكتاب الصادقون».
وقال نقولا الثاني قيصر روسيا: «جميلٌ أنت أيها القلم, ولكنك أقبح من الشيطان في مملكتي» وقال نابليون الأول: «إننى أتوجس خيفة من ثلاث جرائد أكثر مما أوجس من مائة ألف مقاتل» .
ولقد دافع المفكرون في مختلف العصور التاريخية عن حرية الصحافة. وقال شاعر الإنجليز العظيم (ميلتون): «أعطوني حرية المعرفة وحرية القول وحرية المناقشة التي يرضى عنها ضميري قبل أن تعطوني أي نوع من الحريات الأخرى».
الصحافة تتزوج من الجمهور تقول (جين آبوت)في مقالها الذي نال في سنة 1945 (جائزة أحسن مقال في تلك السنة):»إنه لا ريب في أن كل شخص ذكي لبيب سيقر معي بأن لا وجود في العالم على الإطلاق للحرية الكاملة، فليس في وسع أحد أن يتصرف على الدوام على هواه ورغبته دون ضابط أو رقيب. والواقع أن حرية فرد ما أو دولة ما، إنما تنتهي عندما نبدأ حقوق فرد آخر أو دولة أخرى. وعلى هذا النحو يدرك كل فرد ذكي أن حرية الصحافة ينبغي بدورها أن تكون نسبية» .
الجواب على ذلك السؤال يسير: وهو أن تتوفر الحرية لكل صحيفة بحيث تستطيع أن تنشر كل ما يقوي القائمون بالأمر فيها على نشره من الأنباء الصادمة، وأن تضمن في الوقت نفسه حرية نشر الرأيين المتناقضين المختلفين لأية مسألة من المسائل التي يدور بشأنها الجدل والنقاش، وأن تتحرر الصحيفة وتقف موقفا نزيهاً مستقيماً من أي موضوع يدور حوله الجدل والبحث. ثم تتخذلها موقفاً ثابتاً مستقراً منه توضحه في افتتاحيتها.
وحرية الصحافة لا يمكن توفرها إلا بالاعتماد على دعامة واحدة وطيدة هي: الصدق!وعلى الرغم من أن حرية الصحافة تتناول التحرر من قيود مختلفة يفرضها القانون، وقيود تفرضها الظروف الاقتصادية وظروف المهنة، فإن الحرية الأساسية التي ينبغي أن تكون مكفولة موفورة في هذا الصدد هي (حرية القارىء) وقد اتفق أن كان الصحيفة حرة في حين أن قراءها غير أحرار، تمثلت الصحيفة من عبودية قرائها عقبة كأداء تعوق سيرها وتعترض رسالتها من أول الأمر.
أما حرية القارىء فتتفرع إلى حريتين: أولاهما التحرر من الجهل، والثانية التحرر من التعصب المقيت، ذلك أن الجهل والتعصب، كليهما لا يستطيع الاهتداء إلى الحق والصدق مهما كان واضحاً جليًّا أمامهما.
صاحبة الجلالة أو السلطة الرابعة يقول الأستاذ أميل زيدان بك في مجلة (الهلال) لكي نعرف قيمة شيء من الأشياء يحسن بنا أن نعمد على طريقة سهلة، وهي أن نفرض أن هذا الشيء قد زال من الوجود؛ فافرضوا أن دكتاتوراً جباراً، بجرة قلم واحدة، ألغى الصحافة عن بكرة أبيها، فلا جرائد في الصباح ولا جرائد في المساء ولا مجلات مصورة أو غير مصورة! فماذا يكون أثر ذلك في حياتنا؟ لا شك أنها تفقد كثيراً من بهجتها، ولا شك أننا نصبح فجأة كمن خيم عليهم ظلام حالك، إذ تفقد الجانب الأكبر من المعلومات التي نعتمد عليها في حياتنا؛ فالجرائد في عصرنا هي الصلة بين الفرد والعالم الخارجي. ولولاها لعاش في عزلة عما يجري حوله، ولو صح فرضنا لأصاب المجتمع شلل يتناول أعضاءه جميعاً إذ لا توجد دائرة من دوائر حياتنا الاجتماعية لا تغذيها الصحافة أو نمسها من قريب أو بعيد.
وقد أعجبني تحديد أحدهم للصحافة بقوله: «إنها عقرب الثواني على ساعة التاريخ فكما أن عقرب الثواني يجري مجرى الزمن ويقسمه أقساما صغيرة، كذلك الصحافة تتناول مجرى الحوادث التي يتألف منها التاريخ فتحللها وتشرحها وتدونها واحدة واحدة» ولا أخال أنني في حاجة إلى الإفاضة في بيان شأن الصحافة في هذا العصر.. سيقول بعضكم: «كل فتاة بأبيها معجبة» أجل. إني ممن يتعشقون هذه المهنة وممن يفتخرون بانتمائهم إلى صاحبة الجلالة كما سماها البعض, أو (السلطة الرابعة) كما سمّاها آخرون. ولكني في ذلك أصغي لوحي العقل بقدر ما أصغي لوحي القلب.
إن الإلمان ينسبون الجانب الأكبر من انكسارهم في الحرب العظمى إلى فعل الصحافة والبروباجندة، فقد قال أحدهم أن القذائف الورقية كانت أفتك في صفوفهم من القذائف المعدنية.
منقول : الصحافة والصحف. (حسين، عبد الله. غازي، خالد محمد.) وكالة الصحافة العربية, 2018.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب لنا ما يراودك من مواضيع ترغب في الاطلاع عليها