في طفولته بيل غيتس، دخلت عليه أمه البيت فوجدته شارد الذهن، فسألته: "ماذا تفعل يا بيل؟". فأجابها قائلاً: "أنا أفكر. هل سبق لك يا أمي، أن فكرت؟". ظنت الأم أن بطفلها لوثة من جنون، فأخذته إلى الطيب النفسي، الذي قرر بعد جلسة مطولة مع الطفل، الذي لم يتجاوز السادسة من عمره حينها، أن يحضر له مجموعة من الكتب لإشباع فضوله وتنمية رغبته الملحة في التفكير والإبداع.
وإذا كان للأسرة هذا الدور الفعال والإيجابي في التنشئة الإبداعية للطفل، فإنها أيضاً سيف ذو حدين.. عامل تثبيط وقتل لموهبة الإبداع. ولذلك، إذا أرادت أي أسرة أن توفر البيئة المناسبة لتنمية روح الإبداع لدى أطفالها، فإنه يتحتم عليها الاشتغال على واجهتين نراهما رئيسيين.
- العمل على تطوير محفزات الإبداع.
- إقصاء معوقات الإبداع، أو العمل على تقليصها والتضييق عليها ما أمكن.
فثقافة الوالدين مثلاً، التي تكون عامل تحفيز عند بعض الأطفال، قد تسهم في قتل الإبداع عند آخر. فالوالدان المثقفان – مثلاً وأحياناً وليس دائماً – يسقطان تجربتهما على أبنائهما، فيحاولان تدارك الأخطاء التي ارتكبت معهما من حيث اغتنام الوقت وفترة الصبا في التحصيل، مما يؤدي إلى المبالغة في ملء فراغ الطفل بالأنشطة والبرامج والدورات، من دون أخذ احتياجاته بعين الاعتبار، مما يؤدي إلى ملل الطفل وامتعاضه . ولذلك وجبت الإشارة إلى دراسة كل عامل، والاستفادة منه، من دون إفراط ولا تفريط .
تلعب العوامل الموضوعية دوراً مهما في تنمية الإبداع لدى الطفل من خلال إشباع روح المبادرة لديه عن طريق استثمار حبه للمعرفة، وتقديم الدعم اللازم والمناسب، مع التركيز على التواصل، وإعطاء هامش من الحرية المسؤولة للطفل، إضافة إلى التشجيع والتحفيز المستمر.
اغتنام كثرة أسئلة الطفل وحبه للاستطلاع في تنمية روح الإبداع لديه بتعليمه كيفية الإبحار الآمن في الإنترنت، وتوجيهه التوجيه الناعم اللين إلى بعض المواقع العلمية والتربوية الهادفة التي تشبع نهمه المعرفي. فكثرة أسئلة الطفل هي مفتاح الإبداع وبدايته المشرقة. ومن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة كما تقول الحكمة.
هل تتطور الموهبة دائما إلى إبداع ؟
لما كان ليس من الحتمي أن ينضج الأطفال الموهوبون فيصبحوا راشدين مبدعين، كذلل فإنه ليس من الحتمي القول إن المبدعين الكبار كانوا موهوبين في طفولتهم، هكذا قدمت بعض التصنيفات لتوضيح طبيعة العلاقة بين الموهبة والإبداع، ولعل أشهرها ذلك التصنيف الذي قدمه مايكل هاو ( M. Howe) للعلاقات الممكنة بين الموهبة التي تظهر في الصغر والإبداع الذي يظهر خلال مرحلة الرشد في ضوء التفاعلات بين الظروف الثلاثة التالية:
اولا: خلفية الفرد العائلية المبكرة (هل هي محفزة داعمة لموهبته أم أنها ليست كذلك؟).
ثانيا: طبيعة التقدم المتميز الفائق الاستثنائي في مجال معين خلال مرحلة الطفولة (كون الطفل موهوبا أم غير موهوب).
ثالثا: الإنجازات في مرحلة النضج (وجود الإنجازات خلال الرشد أو غيابها).
وقد صنف هاو هذه الفئات الأطفال والراشدين في ضوء هذه المتغيرات في ست فئات هي:
الفئة الأولى: وتضم الأفراد الذين استمتعوا بتنشئة محفزة وداعمة وكانوا أطفالا موهوبين، كما أنهم أصبحوا راشدين قادرين على الإنجاز الإبداعي .
الفئة الثانية: وتضم الأفراد الذين استمتعوا بتنشئة محفزة وداعمة وكانوا أطفالا موهوبين، ولكنهم - وهم راشدون - كانوا غير قادرين الأسباب شخصية أو اجتماعية أو صحية) على الإنجاز الإبداعي، ومنهم وليم سيدس، وكان ابنا موهوبا لأحد المهاجرين الروس اليهود إلى الولايات المتحدة، وسنتحدث عنه ببعض التفصيل في موضع لاحق.
الفئة الثالثة: وتضم الأفراد الذين نعموا بتنشئة محفزة ومدعمة، لكنهم لم يكونوا أطفالا موهوبين، وعلى الرغم من ذلك فإنهم اصبحوا قادرين على تقديم إنجازات إبداعية متميزة خلال الرشد (ومنهم تمثيلا لا حصرا، الروائي الروسي تولستوي، وعالم النفس وليم جيمس، وعالم البيولوجيا تشارلز دارون).
الفئة الرابعة: وتضم الأفراد الذين لم يتعرضوا لتنشئة محفزة ومدعمة، لكنهم كانوا موهوبين في طفولتهم، وقادرين على الإنجاز أيضا خلال مرحلة رشدهم (ومنهم مثلا الروائي التشيكي فرانز كافكا، والكاتب المسرحي الأيرلندي جورج برناردشو ومؤلف الخيال العلمي الروائي الإنجليزي هـ .ج. ويلز والعالم الإنجليزي مايكل فارادي وغيرهم).
الفئة السادسة: وتشمل الأطفال الذين لم تتوفر لهم تنشئة محفزة وداعمة ولم يكونوا أطفالا موهوبين، لكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا قادرين على الإنجاز الإبداعي بعد ذلك، وأبرز الأمثلة هنا هو العبقري الإنجليزي جورج ستيفنسون الذي اخترع القاطرة التجارية، وقد كان في طفولته مولعا بالآلات البخارية لكنه لم يكشف منذ وقت مبكر عن أي موهبة فذة كما حدث بعد ذلك .
مقتبس (هاو - 2005).