عملتُ في النادي الثقافي العربي لمدة ست سنوات، وكان لي الحظ أن أواكب خلال هذه الفترة مراحل تحول مهمة في مسيرة معرض بيروت العربي الدولي للكتاب. حين بدأتُ، كان المعرض يُعتمد فيه على الإحصاءات اليدوية، وكانت المساحات المخصصة ضيقة جدًا. أتذكر جيدًا أن أول سنة عملت فيها كانت في القاعة الزجاجية في الطابق الأول من وزارة الإعلام، ثم انتقلنا إلى إكسبو بيروت ثم مبنى هوليداي إن، قبل أن يُقام في الفوروم دو بيروت، حيث بدأ يأخذ شكله الحقيقي كحدث ثقافي بارز.
كل مرحلة من هذه المراحل كان لها طعمها الخاص. تضاعف عدد الأجنحة، ودخل الكمبيوتر إلى تنظيم المعرض، وتقدمت التكنولوجيا لتواكب هذا الحدث الثقافي الضخم الذي لا يُعقد إلا مرة واحدة في السنة، ليضخ الحياة في الثقافة اللبنانية ويمنح المثقفين والمعلمين والطلاب جرعة من المعرفة المتجددة.
كنت في بداياتي متحمسة ومبتدئة، خريجة قسم التوثيق من كلية الإعلام، محبة للكتب، وعاشقة لرائحة الورق التي كانت تحملني إلى عالم أرقى من الوعي والتفكير. وفي تلك السنة الأولى، سعدت بلقاء الشاعر الكبير نزار قباني، الذي كنت أُعجب به كثيرًا، ووقّع لي ديوانه "هل تسمعين صهيل أحزاني". لم يكن ذلك مجرد لقاء عابر، بل لحظة مؤثرة أدخلتني في عالم الشعر من أوسع أبوابه، لاى ان كتب خواطري في العام 2000 بديوان "حوار مع الذات " صادر عن دار الجديد.
مع انتقالنا إلى معرض (إكسبو بيروت)، بدأت مرحلة جديدة. المكان أوسع، عدد دور النشر أكبر، والتحديات أعظم. عملنا جاهدين لعام كامل على تطوير نظام إلكتروني يُدخل بيانات دور النشر والكتب، وكم كنت سعيدة بتكليفي مسؤولية هذه المبادرة. أشرفتُ على فريق عمل من تسعة أشخاص، كنا ندخل المعلومات ونصنف الكتب تحت رؤوس موضوعات مبسطة (كالكتب المدرسية، الأدب، الفلسفة، الشعر، الدينية...) لتسهيل عملية البحث على الزائرين. هذا الجهد كان جديدًا وقتها، لكن نتائجه ظهرت مباشرة عند افتتاح المعرض، حيث وجد الزوار أجهزة كمبيوتر تساعدهم في البحث عما يريدونه.
كل سنة كنا نحرص على تطوير التجربة. في مبنى هوليداي إن، لعدة سنوات، أصبح المعرض وجهة ثقافية ينتظرها الجميع بشغف أكبر. وكنت أُشارك أيضًا في تنظيم فعاليات مخصصة لطلاب المدارس، جلسات صباحية ومسائية، نُعلّمهم كيف يختارون الكتاب المناسب، ونُرشدهم إلى طرق تقييم الكتاب ومحتواه في ظل غياب الإنترنت أو مراجعات الكتب وقتها. كان المعرض شبيه ببوابة حقيقية لعالم الثقافة، وكان الطلاب، والأهالي، وحتى الأساتذة يتفاعلون معنا بشغف كبير.
وتحولت هذه الفترة طريقة اعداد الاحصائية ( احصائية يومية لمعرفة أكثر الكتب مبيعا) من الفرز اليدوي الى الفرز الالكتروني لنختصر ساعات من العمل والجهد مع فريق لا يتجاوز 8 أشخاص .
قاعات المقاهي الثقافية داخل المعرض كانت تضج بالندوات والنقاشات الأدبية، وجلسات توقيع الكتب، ولقاءات جمعتني بشخصيات ثقافية مثل شوقي بزيع وسهام الشعشاع وغيرهم. كانت العائلات تضع ميزانية خاصة سنويًا لاقتناء الكتب، والموسوعات، والقواميس، والمراجع، والروايات، والكتب الدينية. كانت بيروت تحتفي بالكتاب وكأنه نجم الموسم.
وفي السنوات الأخيرة، أضيف جناح خاص بالإصدارات الجديدة، تُقدّم فيه كل دار نشر خمسة عناوين جديدة، ليبدأ الزائر جولته بأبرز ما صدر، قبل الغوص في متاهات الأجنحة والرفوف.
كل يوم كنت أمشي بين الأجنحة على أنغام فيروز، وأتمنى أن أقرأ كل كتاب، أن أقطف من كل زهرة، أن أستنشق كل فكرة. كانت مشاعر صادقة ومليئة بالشغف.
لكن للأسف، اليوم، خفَت هذا البريق. تراجع معرض الكتاب، لم يعد يحتل المساحة ذاتها في حياتنا. الكتاب لم يعد ضيفًا على أسرّتنا، وغبار السنين غطى مكتبته. حلّ الهاتف مكانه، بخفته، وسطحية أخباره، وتفاهة محتواه.
في عصر السرعة والشاشات، تراجع وهج معرض الكتاب وتلاشى بريقه الذي كان يومًا يضيء مواسم الثقافة. ليس في لبنان فقط بل في جميع اصقاع الارض كأن التكنولوجيا جاءت لتعيدنا الى الجهل، لم يعد الناس ينتظرون موعده كما كانوا، ولم تعد العائلات تُعدّ له ميزانية خاصة كما في الماضي. أصبح الكتاب غريبًا عن بيوتنا، ضيفًا ثقيلاً نزيحه جانبًا لنُفسح المجال لهواتفنا وأجهزتنا الذكية.
لقد فقد المعرض روحه كملتقى فكري وإنساني، حيث كان القارئ يلتقي بكاتب أحبه، والطالب يكتشف عنوانًا غيّر حياته. غاب الحضور الجَماعي، وخفتت النقاشات حول الأدب والفكر، وحلّ محلّها استهلاك سطحي للمعلومة، لا يترك أثرًا ولا يصنع وعيًا. معرض الكتاب اليوم ليس كما كان، ونحن أيضًا لم نعد كما كنا.
كم نفتقد معرض الكتاب، وكم نشتاق إلى المعرفة العميقة التي كانت تصنع وعينا، وتمنحنا الإلهام!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب لنا ما يراودك من مواضيع ترغب في الاطلاع عليها