اليوم العالمي للغة العربية: لغة حضارة تبحث عن مكانها في العصر الرقمي إعداد : سمر ضو


اليوم العالمي للغة العربية: لغة حضارة تبحث عن مكانها في العصر الرقمي

إعداد: سمر ضو 

تواجه اللغة العربية في عصرنا اليوم، تحديات متزايدة في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، والعولمة الثقافية، وهيمنة اللغات الأجنبية في مجالات التعليم، والتكنولوجيا، وسوق العمل، والمعركة اليوم ليست بين العربية وغيرها من اللغات، بل بين الوعي والإهمال، وبين الاستثمار في اللغة أو تركها تتراجع أمام تسارع التكنولوجيا .

 وعلى الرغم من كون العربية واحدة من أكثر لغات العالم انتشارًا، وإحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، إلا أن حضورها في الفضاء الرقمي والمعرفي لا يزال دون المستوى المطلوب مقارنة بلغات أخرى.  

وفي هذا الإطار، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 اللغة العربية، لغةً رسميةً سادسة من لغات العمل في المنظمة الدولية، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والصينية

وانطلاقًا من هذا الاعتراف الدولي بمكانتها، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، عام 2012، اعتماد  18 ديسمبر من كل عام، ليكون اليوم العالمي للغة العربية، احتفاءً بمكانتها الحضارية والثقافية، ودورها التاريخي في نقل العلوم والمعارف، وإسهامها في بناء الفكر الإنساني عبر القرون.

 ورغم هذه الأهمية، يمكن القول إن تهميش اللغة العربية والاستهانة بها يُعدّان من أبرز مخلفات العولمة الثقافية، حيث فرضت اللغات الأجنبية نفسها كلغاتٍ مهيمنة في مجالات العلم والتكنولوجيا والإعلام وسوق العمل. ومع تسارع الانفتاح الرقمي، تراجع حضور العربية في الاستخدام اليومي، لصالح لغات يُنظر إليها على أنها أكثر  عملية أو ارتباطًا بالفرص الاقتصادية

سمر ضو

ولا يعود هذا الواقع إلى ضعفٍ في اللغة ذاتها، بل بسبب تراجع الثقة بقيمتها العملية والحضارية، وانتشار أنماط تعبير هجينة، سواء عبر الكتابة بغير الحروف العربية أو إهمال القواعد والأسس اللغوية. ومع الوقت، تحوّل هذا السلوك إلى ممارسة شائعة، لا سيما بين الأجيال الشابة، ما أسهم في إضعاف الصلة باللغة الأم بوصفها أداة تفكير وهوية، لا مجرد وسيلة تواصل.

إن العولمة، بما حملته من توحيد للأنماط الثقافية، وضعت اللغة العربية أمام تحدٍّ حقيقي: إما أن تبقى على هامش الاستخدام، أو أن يُعاد إدماجها بوعيٍ معاصر في التعليم والإعلام والتقنيات الحديثة.  

وتتجلّى أهمية تعزيز العربية في كونها وعاء الهوية والذاكرة الجماعية للأمة. فاللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل هي حامل للقيم، والتاريخ، وطريقة التفكير، والتعبير عن الذات. ومع تراجع استخدام العربية الفصيحة لصالح اللهجات المحلية أو اللغات الأجنبية، خصوصًا بين الأجيال الشابة، يبرز خطر الانفصال التدريجي عن التراث الفكري والثقافي

في المقابل، يفتح العصر الرقمي فرصًا كبيرة لإحياء اللغة العربية إذا ما أُحسن استثمارها. فالذكاء الاصطناعي، والترجمة الآلية، ومعالجة اللغة الطبيعية، وصناعة المحتوى الرقمي، كلها مجالات يمكن أن تسهم في تعزيز حضور العربية وتحديثها، شرط تطوير أدوات تقنية داعمة لها، وتشجيع الإنتاج الإعلامي والمعرفي باللغة العربية.

 وفي مواجهة تراجع مكانة اللغة العربية، تتوزع المسؤولية بين أطراف عدة، لكلٍ منها دور تكاملي لا يمكن فصله عن الآخر، إذا أُريد للغة أن تبقى حيّة وفاعلة في الوعي والممارسة. سواء من خلال الأسرة التي تعتبر الحاضنة الأولى للغة، حيث يكتسب الطفل من خلالها مفرداته الأولى، وتتشكّل علاقته باللغة بوصفها لغة تفكير وتعبير لا مجرد مادة دراسية.  ثم يأتي دور المدرسة حيث تتحمل بدورها مسؤولية محورية في ترسيخ اللغة العربية علميًا وجماليًا.  

كما تقع على عاتق الحكومات مسؤولية حماية اللغة العربية بوصفها مكوّنًا من مكوّنات السيادة الثقافية. ويشمل ذلك سنّ تشريعات تُعزّز استخدامها في الإدارات العامة، والتعليم العالي، والإعلام الرسمي، ودعم مشاريع التعريب والترجمة، إضافة إلى الاستثمار في المحتوى الرقمي العربي.  

 ولا نغفل هنا الدور الكبير الذي يقع على عاتق وسائل الإعلام، التقليدية والرقمية، من خلال استخدام لغة عربية سليمة، بعيدة عن التكلف، والحد من التشويه اللغوي الشائع.

إن تعزيز اللغة العربية ليس مسؤولية جهة واحدة، بل هو مشروع ثقافي جماعي، يبدأ من البيت ولا يكتمل إلا بتكامل الجهود بين الأسرة، والمدرسة، والدولة، والمؤسسات الثقافية، والإعلام. فاللغة التي لا تُمارَس بوعي، ولا تُدعَم بسياسات ومبادرات، تبقى مهددة بالتراجع مهما بلغ عمقها التاريخي وجمالها التعبيري.

 

 

تعليقات